Harith's Space!

In "Harith's Space!" I share some personal feelings, memories, thoughts and observations. Help me to make this space positive by allowing me to learn from your feedback.


الكل يسـأل ماذا حدث؟ وأين كنا ، وكيف صرنا؟ أحاديث وأسئلة كثيرة تبحث عن إجابة مقنعة. والحق يقال فإن سؤال الناس وتعجبهم له دلالتين... الأولى سـلبية والثانية عكس ذلك. الأولى تقول بأنه وصلنا حال من التدهور فأصبح هلال رمضان جليا ولا خلاف عليه. أما الدلالة الثانية فهي تشير إلى عدم رضى في داخل كل متسائل ، ورغبة لتغيير الحاضر والعودة لما كنا عليه.. وفي ذلك بشارة أمل!
ولكن هل يمكن تغيير الحاضر وتشكيله كالصلصال ليشابه شيئا مضى عليه زمان طويل؟ أهو من المستطاع؟ وإن كان فبيد من؟ وهل ما كنا عليه سـابقا هو الأصلح لنا اليوم أو غدا؟.. كل ذلك أسئلة لا تزيد الأمر إلا تعقيدا. ومع ذلك.. سأحاول.. أحاول.. أن أجيب..

وحتى يقع نظرك لما أرمي إليه فيسهل عليك ترجمة قولي ، إليك بعضا من المشاهد البسيطة التي رأيتها في اسبوعين. وأقول بسيطة لأنها مشاهد ضحلة مقارنة بما سمعت وقيل لي ، ولكنهـا مع ذلك ستشعرك بأعراض الجرثوم الخبيث المنتشر:

1- المكان: مطار الخرطوم.

* هناك شاشات تلفزيونية حديثة ويظهر عليها الغلاء معلقة أمام كل (كاونتر) لتريك خط الطيران ورقم الرحلة وغيره. ولكن جميعا لا يعمل!

* هنالك شاشات أخرى لعرض الرحلات ومواعيد الإقلاع. أنظر في القائمة ، فلا أجد رحلتي بينهم.. أنظر بعناية أكثر فأجد أن الشاشة لا تزال تحوي رحلات الصباح رغم أن الساعة قد جاوزت السابعة مساءا!

* صف الجوازات مزدحم للغاية وقد تستغرق قرابة ساعة كاملة منتظرا. جميع الرحلات تأخرت لإنتظار الركاب. لماذا؟ لأن هناك ظابطين فقط لخدمة أكثر من 500 مسافر.

* شخص يتسلف قلما في صف الجوازات. يعيد القلم بعد طول انتظار دون كلمة شكر واحدة ، بل ودون أي إشارة بأنه مدين لك بشيء.

* أقف في صف الجوازات المزدحم. أجد حقيبة يد في منتصف الصف… الكل مرّ حول الحقيبة ولم يسأل أحد عن صاحبها. سألت الرجل الذي كان يسبقني فأجاب بالنفي ، فسألت بصوت عال.. الكل ينظر إلىّ باستغراب. الرجل المصري الذي يتبعني أثار الشك فضوله ، رغم أن سؤالي لم يكن إلا شفقة بصاحبها فيصعد للطائرة دونها ، أو يصل لبلد وصوله دون جوازه الأخضر المحترم أو أوراق إقامته. أشار المصري لضابط كان يجلس في كرسي على بعد أمتار. نظر الظابط من كرسيه محاولا ترجمة لغة الإشارة ، ولما لم يفلح عاد يلعب بهاتفه الجوال! عاود المصري الإستغاثة ، فجاء الظابط بضيق يسأل (في شنو؟) ، ولما شرح له الأمر رد قائلا (يعني شنو؟ أسي حيقوم صاحبها يتذكرها ويجي راجع!). ثم ابتسم وكأنه أُعجب برده الذكي على المصري ، فأضاف (أطمن.. إحنا هنا بلدنا آمنة!!!).

وللأمثلة بقية…

حطت الطائرة الإماراتية في مطار الخرطوم كما يحط الطير أرضا يعرفها... في ثقة وثبات وارتياح. كم كانت دهشتي وأنا أنظر للخرطوم أثناء الهبوط من على النافذة. قلت في نفسي: الخرطوم أصبحت مُنـارة! رغم سذاجة الملاحظة فقد كان منظرا يدعو للسرور ، فهي المرة الأولى التي ترى عيناي الخرطوم بهذا القدر من الإنارة!

حطت الطائرة الإماراتية في ثقة وثبات وارتياح. فتنهدت نفسي ، وأخذت نفسا عميقا ، ثم شكرت ربي.. الذي هون عليّ مشقة السفر ، فقطعت قرابة نصف الكرة الأرضية في عشرات الطيران صابرا ، ومبتسما.. مشتاقا لأصل في هذا اليوم المبارك... اليوم الذي وقف فيه حجاح بيته فوق جبل عرفات يشكرون ويحمدون. لعلها صدفة الأرقام أو قِسمة الأقدار التي أوصلتني للوطن في نفس اليوم الذي يصادف يوم مغادرتي له عام 2002. عندما زرته في زيارة خاطفة أشبه بالوداع ، وذلك قبل رحيلي للولايات المتحدة بأيام قليلة. يومها تألمت عيناي مشقة الوداع ، وصعدت على سلم الطائرة بثقل ، محمولا على هموم وأسئلة فكتبت وقلت:

ها قد ودعت الجميع الآن.. فردا فردا ، ورديت كل قبلة بمثلها ، وكل حضن دافئ بضعفه.. ودعتهم جميعا ولا أدر إن كنت سألتقي بهم مجددا.. وإن كنت سألتقي بهم فأين ومتى؟!.. لا أعلم.. وليس باستطاعتي حتى التكهن. ولكن ربي ورب كل ما في هذا الكون عليم ، عساه يرد غربتنا ويبعد كل أسباب ودواعي الفراق والوداع اليوم قبل غدا.. ألا هو السميع المجيب.

وأنا لا أزال في تلك اللحظة الحالمة بين الماضي والحاضر ، وفكري يتنقل بين النظر من النافذة ، إلى التفكير بمن سألتقي بهم ، إلى دندنة لأحدى أغنيات الكابلي ، سرعان ما انقطع حبل أفكاري وانتقلت لعالم آخر.. عالم يختلف كثيرا عن العالم الذي أرجوه وأتمناه. فهو أكثر جفاءا وواقعية! قالت المضيفة بلهجة حازمة : "الرجاء العودة إلى مقاعدكم.. الرجاء العودة إلى مقاعدكم حتى تتوقف الطائرة تماما ". نظرت حولي وجدت أن عشرات الركاب قد قاموا من مقاعدهم ، وفتحوا الخزانات العلوية ينزلون حقائبهم وأكياس ثقيلة كُتب عليها سوق دبي الحرة ، رغم أن الطائرة لا تزال في المدرج! لم أفهم سر "الشفقة".. الطبيعي أن يستمع الركاب لكلام المضيفة ويعودوا لمقاعدهم ، ولكن عكس ذلك تماما هو الذي حدث. فقد كان إعلان المضيفة ليس سوى تذكيرا للآخرين بأن عليهم كذلك إنزال حقائبهم بسرعة قبل الآخرين! وفي لمح البصر أصبح العشرة ركاب عشرين ثم ثلاثين وأربعين ، والطائرة لا تزال تمشي في المطار... كطير حلّ في بلاد لا يعرفها ولم يرها قط!

دخلت لصالة الوصول ، فأخرجت جوازي الأخضر لظابط الجوازات. ذلك الجواز الذي صار مع الأسف لا قيمة له إلا في وطنه. ولذلك عودت نفسي أن لا أخرجه إلا حيث وجد إحتراما. وكلما سنحت الفرصة لم أتردد في إخراجه بفخر رغم كل القلق الذي قد يلحق بي فيما بعد من الأخوة الأعداء في المغتربين ومكتب الخدمة الوطنية! حياني الظابط بأدب ثم سلمني الجواز وعليه خِتم الوصول. دخلت لعمق الصالة. وجدتها واسعة ، جميلة ، ومكيفة. كانت الصالة رغم إتساعها تبدو ضيقة. كانت أشبه ببيت صاحبه جاد به الكرم فدعى الحي كله للغذاء ، وكأنه لا يعلم أن ذلك فوق طاقته ، فلا طعاما يكفيهم ولا مكانا يسعهم. الصالة كذلك كانت.. في حالة من الفوضى من شدة الزحام. فلا عربات تكفي المسافرين ، ولا موظفين لتفتيشهم! الشاشات التلفزيونية التي يفترض أن تريك في أي حزام ستصل حقائبك لا تعمل ، وبالتالي ما كان لي إلا أن أتوقف في كل حزام واحد تلو الآخر لأسأل الركاب المنتظرين. سألت أحدهم فقال "دي طيارة جدة" ، ثم أتجهت للحزام التالي فأجاب بابتسامة التائه بخجل "ولاي أنا زاتي ما عارف دي ياتو طيارة" فأتجهت لآخر فقال "دي طيارة جدة". فسألت باستغراب "أنا قايل إنه السير داك بتاع جدة" ، فأجاب "لأ ديك تكون السودانية ، ده سير السعودية الجاية من جدة!". أخيرا لم أجد أضمن من نظرية الغنم في الحياة وهو السير في جماعة. وبالتالي رحت أبحث عن ركاب طائرتي ، فوجدتهم متجمعين حول أحد الأحزمة. أما كيف عرفوا أن ذلك هو الحزام الصحيح ومن أوحى لهم ، فذلك يظل في علم الغيب!

كانت ساعاتي الأولى في الوطن العزيز كافية لاستخلاص مشكلتين رئيسيتين في السودان وأهل السودان. أوصلني ذلك الإشتقاق إلى تفسير الكثير من المواقف والمشاهد فيما بعد. أما ما هي هاتين المشكلتين ، وكيف ولماذا ، فذلك هو محور حديثي القادم. ولأن السودان لا يمكن أن يخطو للأمام إن كان شخصه يجذبه للخلف أمتارا وهو لا يدر ، فسيكون تركيزي في الشخص السوداني ليكون محور الملاحظة والتحليل. فهو رغم كل شيء.. الأمل. وهل لنا غير الأمل؟


Subscribe to: Posts (Atom)