Harith's Space!

In "Harith's Space!" I share some personal feelings, memories, thoughts and observations. Help me to make this space positive by allowing me to learn from your feedback.


من ذات المكان البعيد عاوده نفس الحلم من جديد. نفس الحلم يأتيه من أربعة أعوام. يبدأ بنفس البداية ، وينتهي نفس النهاية المفاجئة. دائما يكون الحلم الأخير في سلسلة أحلام متقطعة ، ودائما يلعب الكتشينة رغم أنه لا يلعبها قط على أرض الواقع ، وبالكاد يفهم قوانينها. ألم نقل بأن الأحلام وحدها تجعل المستحيل واقعا؟!

ككل مرة يرى (خالد) نفسه يلعب (الكتشينة) مع مجموعة من الأغراب. كان رابعهم ، وكان الوقت متأخرا في مكان لا يعلمه ، ولكنه حتما لم يكن منزله. كان دائرة اللعب تدور وتدور ، يسحب كرتا ثم يتخلص منه بسرعة... لم تكتمل تشكيلة الأوراق التي ينتظرها. فيلعبون من جديد ، مرة ثم أخرى ، وفي كل مرة يكون منتظرا نفس الكرت.. (الجوكر). يسحب كرتا من جديد ، ويتخلص منه مجددا ، ولم يظهر بعد كرت (الجوكر). حتى جاءه الدور من جديد ، وظهر كرت بدا له كالجوكر.. دقق النظر ، وكأنه لا يصدق ما يرى ، حتى وجد أخيرا أنه ليس سوى كرت (الجوكر).

وعندما جاء ليقذف بالجوكر بكل حماس حتى ينهي اللعبة لصالحه ، سمع طنينا شديدا ، بدا بعيدا ولكنه سريعا بدأ بالاقتراب شيئا فشئيا بصورة مزعجة. لم يعرف سببه ولا مصدره. نظر حوله فوجد الثلاثة ينظرون إليه وهم يضحكون بشدة وبأعلى صوت ، حتى كاد أحدهم السقوط من فرط الضحك. ثم في وسط هذا الذهول ينتهي الحلم.. فجأة...




دخلت الطائرة في هذه الأثناء الحدود الأمريكية اليابسة ، تلك البلاد التي لا يعرف إلى اليوم من أول من وصل إليها. فبعد أن حفظنا بعناء اسم كريستوفر كولمبوس في المدرسة ، تقول اليوم كل النظريات والبراهين اليوم "عفوا كولمبوس ولكنك لست أول من وصل أمريكا!".

المهم ، وصلت للبلاد التي قال عنها الرئيس الفرنسي المعروف بآراءه الحادة تجاه أمريكا شارل ديجول ساخرا "الحضارة لا تشترى بالمال!". وإن في تصوري أن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة هو واحد من أهم الأسباب تقدمها ، وإن بعد أمريكا عن أوربا وآسيا وأفريقيا أمان بحد ذاته. فالشعب الأمريكي عاش بعيدا من أي شيء ، فهو إلى اليوم لم يعرف حربا في بلده ، ولايزال يستمع عبر شبكة الـ
CNN عن الحروب التي تشارك فيها قواته في دول أخرى كفيتنام ، وكوبا ، والعراق. ولكنه لم يعش الحرب ، ولم يعش خوف الحرب أبدا ، فلم تضرب بلاده لا بقنبلة نووية فاحجتاجوا لإعادة تعمير تحتية ، ولا حرقت المدن فاحجتاجوا للرحيل. اللهم إلا حادثة (بيرل هاربور) اليتيمة ، عندما تجرأ اليابانيون واخترقت طائراتهم وحاملات الطائرات كل الرادارات الأمريكية بدهاء مثير ، فضربوهم في عقر دارهم. ولكن انتقام الأمريكان كان أكبر ، فردوا عليهم بإلقاء القنبلة النووية الشهيرة ، لمن تجرأ ومس ريش النسر الأمريكي العظيم! ن

نظرت من النافذة لهذه البلاد ، كل ما وجدته كان أبيضا.. فالثلج يعم المكان.. المياه مجدمة ، والأشجار يغظيها الجليد بعدما قرض كل ما فيها.. تذكرت حينها بيت شعر جميل جدا لدبلوماسي السودان الأول (محمد أحمد المحجوب) عندما مرَ بموقف مشابه تقريبا ، فكان كذلك في الطائرة وفي أواخر أشهر الشتاء ، فعبرت طائرته جبال الألب ، فنظر من نافذته ووجد الجبال وقد بدأ الثلج بالزوال ، ليظهر اللون الأسود مرة أخرى ، فقال وهو ينظر إلى تلك الجبال ( ليت شيبي موسمي مثلها.. يسدل الصيف عن صباها القناع). وسر حفظي لهذا البيت هو أن والدي -صاحب الشعر الأبيض منذ عقده الثالث- يعلق هذا البيت من الشعر في مكتبه!.


بدأت الطائرة بالهبوط تدريجيا في مدينة نيوجيرسي ، وعندما عبرت الطائرة مدينة نيويورك ، وظهرت عروسها منهاتن دون حلقها المتدلي الشامخ ، تذكرت اليوم الذي فقدتهما ، إن يوم الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001 سيظل محفورا في قلب كل أمريكي بلا شك.


الكل الآن في الطائرة في حالة استعداد للهبوط ، فربطنا حزام الأمان ، والطائرة تهبط تدريجيا بكل هدوء حتى أنزلها قائدها بكل براعة وخفة في أرض الولايات المتحدة الأمريكية في تمام الساعة الثامنة وأربعون دقيقة صباحا في اليوم الأخير من عام 2002.



سألت ما هي إجابتك ؟ ولعل سؤالي هذا ما كان ينتظر طوال هذه المدة. تمدد على كرسيه في ارتياح ، ووضع رجلا على أخرى ، ثم قال:

- الديمقراطية.

ربما قال وجهي الكثير وأنا لا أعلم ، لكن ما أذكره أنه لم تخرج عني أية حروف. كنت لا أزال أفكر في الفرق بين الاكتشاف والاختراع ، ثم جال رأسي يفكر عن عظمة الديمقراطية كما يقول صديقي الديمقراطي. أخيرا سألته ما كان ينتطر:

- كيف؟!


قال أنه يعتقد بأن الديمقراطية هي أساس السلام في العالم ، ولولا الديمقراطية لما سقططت ممالك وكنائس أبت دون تقدم العلم. هززت رأسي مبديا اتفاقا إلى حد ما ، ولما أحس بذلك أعاد نفس الكلام ولكن بصياغة أخرى ، وعندما أحس أنه لم يكسب التأييد الذي رغبه قال:

- ربما يصعب عليك تقدير دور الديمقراطية لأنك من خلفية مسلمة.

قالها ببرود وهو لا يدر أنه مس وترا حساسا! عندها فقت من كومة التخدير التي كانت لا تزال تسريني طوال فترة حديثة ، ثم قلت:

- عليّ أن أغادر لأني لدي موعد مع صديق وقد تأخرت ، لكن لدي نقطتين ردا على رأيك:


أولا ، أن الاسلام قد جاء بمدأ الشورى عندما لم يكن هناك بعد مصطلحا اسمه ديمقراطية. ووقتها الدين لم يتعارض أبدا مع العلم ، ولذلك كان العلماء في أوربا يترجمون الكتب العربية والفارسية للإنجليزية وليس العكس.


ثانيـا ، رغم قناعتي بدور الديمقراطية في العالم ، من قال بأنها تعني دائما السلام والرخاء كما تقول؟ انظر للصين فهي أكبر منافس لكم ، وهي دون شك القوة الاقتصادية الكبرى في المستقبل القريب ، ومع ذلك فهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية التي تتحدث عنها. قال:

- صحيح ، ولكني أعتقد بأنها ستكون أكثر قوة ورخاءا لو كانت ديمقراطية.

- كيف أنت موقن بذلك؟! انظر ماذا فعلتم في العراق؟ كان قوة ديكتاتورية دون شك ولكن قوية اقتصاديا ومستقرة سياسيا. أما اليوم فهي ديمقراطية في رأيكم ، ولكن مفلسة وبعيدة كل البعد عن السلام والرخاء.


اعطيت ردي بطريقة "كش ملك" ، وغادرت وأنا أحتفظ على بسمة مصطنعة.. أما هو فتركته حائرا أعوج اللسان.

***

مر على هذه القصة شهور قليلة ، وها أنا أكتب هذه الكلمات كالعادة من مقهى (بيتس) لا زلت أرى شيخنا الديمقراطي كل يوم تقريبا. لا يزال يأتي وحيدا.. يشرب قهوته وحيدا ، ولا يزال كوبه يئن ويتوجع كل حين. صار يتحاشى النظر إلى والقاء السـلام ، وإن ابتسمت ملقيا التحية رد ببرود وكأنه لا يذكرني ، وكأن الديمقراطية قد فشلت في إثراء علاقة بين كندي ديمقراطي ، وسوداني مسلم!


قبلت طلبه بترحاب شديد ، و أجبت كل أسئلته التقنية. وبعد أن انتهيت سأل:

- من أي البلاد أنت؟

قلت السودان. سعد جدا وقال أنه لم يلتق أحدا من السودان قد. عاد فسأل وهو يفكر:

- هل أنت من الجزء المسلم أم المسيحي؟

- المسلم...

غابت الابتسامة الكبيرة فجأة ، ولم يقل شيئا سوى اهتزازة بسيطة من الرأس تقول أن الرسالة قد وصلت.


أسند ظهره للخلف وأخذ شرفة أخرى من قهوته ، ثم وضع كوبه بقوة كالعادة ، وقد بدا أنه في مزاج للحديث المتواصل. بدأ يحكي أنه من مدينة واترلو الكندية وأنه يعيش في مدينة سان فرانسسكو لأكثر من ثلاثين سنة ، كيف جاء ، وماذا عمل قبل التقاعد ، وهواياته. وفي حديثه لاحظت أنه كان يستمتع وهو يسألني أسئلة تاريخية صعبة ، فسألني عن السنة التي حل فيها كريستوفر كولمبوس لأمريكا الشمالية ، وعن الهنود الحمر. وجميعها مواضيع أجهل عنها تماما! فراح يشرح ويشرح حتى أخذنا الحوار أكثر من ثلاثين دقيقة ، وأنا أنظر للساعة كل حين خوفا من التأخر على موعد كان مع صديقي إبراهيم مأمون.


وبين حديثه المتواصل الذي بدأت الملل منه ، وأسئلته التاريخية الصعبة ، صرت أنظر لوجهه في سراب ، وإلى فم يتراقص فتخرج عنه حروف أراها ولا أسمعها.. سأل فجأة:


- في رأيك ما هو أعظم اكتشاف توصلت إليه البشرية؟


ولأول مرة أحس أن لديه سؤال بعيد عن الملل. قلت بعد تفكير:


- الكهرباء. وشرحت لماذا الكهرباء في رأيي. تركني أكمل تفسيري ، ثم قال:


- لقد لامست جزءا من قلبي لقولك الكهرباء لأني كنت كما ذكرت مهندس كهرباء. ولكن لاحظ أنني قلت ما أعظم "اكتشاف" وليس "اختراع" ، وهناك فرق كبير.


فقلت ما هي إجابتك إذا؟ ولعل سؤالي هذا ما كان ينتظر طوال هذه المدة. تمدد على كرسيه في ارتياح ، ووضع رجلا على أخرى ، ثم قال:


- الديمقراطية.


وللحديث بقية.



بعنوان مشابه لآخر انتقاه الدكتور مصطفى محمود لواحد من أفضل كتبه "حوار مع صديقي الملحد" أخترت أن أسمي حديثي.

مثله كأي يوم آخر ذهبت لمقهى "بيتس" أحتسي قهوة أعلم عن يقين أنها تماما ما كنت أفتقد في تلك الساعة. وعندما تذهب لمقهى "بيتس" يوميا مرة أو اثنتين فلابد أن تدرك بعضا من الوجوه المألوفة.. أو الزبائن المخلصين. ومن بين الزبائن المتكررين رجل كبير في العمر.. ربما يكون في أواخر العقد السابع. أراه كل يوم يأتي وحيدا.. يشرب القهوة.. وحيدا.. ثم ينصرف.. وحيدا.. دون كلمة.


كان يلفتني إليه أمرين ، أنه وحيد دائما.. حتى من كتاب. فقلت في تحليل نفسي داخلي أنه ربما يسكن في دار العجزة الذي هو على بعد خطوات من مقهى "بيتس". أما الأمر الثاني فكان في طريقة شربه للقهوة. فهو يحتسي شرفة ثم يضع الكوب على الطاولة بقوة وبطريقة مزعجة تجعلك تخشى على الكوب أن ينكسر في أي لحظة ، وتجعلك تأسف كل حين على قعر الكوب وأن تسمعه يتوجع ويئن!


ولكن في عصر ذلك اليوم بالتحديد بدا الشيخ الكبير مختلقا. فلم يكن وحيدا. كان معه جهاز كمبيوتر محمول ، فنظرت إليه خلسة في إعجاب وقد بدا من حركاته إنه متمكن من استعماله. وما هي إلا دقائق قليلة حتى رأيته يتحرك نحوي ولأول مرة أسمع له حسا! كان مختلقا ولا يشبهه إطلاقا! كان أكثر قوة وثقة. قال:

- هل تسمح لي بدقيقة ، أريدك أن تريني كيف أستطيع الاتصال بالشبكة اللاسلكية من جهازي المحمول.


وكان ذلك بداية الحوار الديمقراطي... وللحديث بقية.

Subscribe to: Posts (Atom)