حللت عليها أول مرة في الليلة الآخيرة من عام 2002 عندما جئت لدراسة الماجستير في علوم الكمبيوتر. جئت وأن أحمل الكثير من الأفكار.. أو لعلها فوضى الأحلام. فتارة تأتيك فكرة تثير في قلبك الكثير من الأمل ، وأحيانا كثيرة أخرى ترى نفسك في غرفة مظلمة داكنة السواد ، وأنت تسمع وحوش الغربة تحاوطك من كل مكان. فلا تدرك أين المفر. ولا تجد غير أقرب الأقربين إلى قلبك حتى تكشف عن ما فيه... عبر الأسلاك. وأنت تعلم بأن الأسلاك ماهي شفاء ، وإنما مُسَكِن لآلام قارصة. وأحيانا أخرى لا تريحك حتى أحن المسكنات ، فلاتجد غير القلم والدفتر وعاءا صبورا لكل هذه الفوضى. كتبت أيامها وأنا في تلك الغرفة المظلمة فقلت:
"إنها وحدة يقشعر منها البدن ، ويغيب عنها صوت الأمل ، فيظل حصن الوحدة مسيطرا ، فيطغى ، ويقهر ، ويستبد ، ولا يرق له قلب ، ولا ينفع معه لا دمع ولا رجاء ولا توسل. فنعلن الخضوع ، ونحني ظهورنا كرها ، ونقَّبل قدميه قبل يديه ونقول: السماح سيدي.. فنحن عبيدك حتى تأذن لنا. فمتى سيأذن؟!.. وكل خوفي أن لا يأذن!".
بكيت.. حتى وجدت الصحبة.. أعز الأصدقاء: (فيشال) من الهند ، (فولكان) و (بكيت) من تركيا. فرقتنا الأصول والحدود ، وجمعتنا الغربة وآلامها. فنسينا أوتناسينا الآلام بالأحلام ، وتجاوزنا همهمات النفوس بأطيب الحديث.
ويوم دقت الساعة معلنة موعد الرحيل عن سان بيرناردينو ، بكيت من جديد. اكتشفت حبي للناس والمكان. أيقنت كم كنت محظوظا بتلك الرفقة. تذكرت المحاضرات ، والمشاريع ، والواجبات ، والسهرات في مختبرات الجامعة حتى الفجر. تذكرت شهامة (فيشال) وحسن نواياه. أدركت كيف استطاع كسر حصن وحدتي بأفعال بسيطة في عددها ، وكبيرة في معناها. تأملت في كرم (بكيت) المتواصل وجلسات الشاي والقهوة التركية في منزلها. تذكرت طيبة (فولكان) وحديثنا اللامنتهي عن آخر تقنيات البرمجة. ضحكت على ذكريات طريفة ، وارتجف قلبي لأخريات.
وها أنا اليوم أعود لزيارة سان بيرناردينو في عطلة نهاية الأسبوع ، وأنا سعيد بأن صحبتي في الطريق نحو تحقيق أحلامهم ، وسعيد أكثر لأن النفوس هي النفوس ذاتها.. محبة ، مشتاقة.
قلت وأنا أتابع منظر الهبوط: أما هكذا هي الحياة ؟ تذهب بنا أين ما شائت ، ونعود متى شئنـا ؟!
ح.ع - 16 نوفمبر 2008