Harith's Space!

In "Harith's Space!" I share some personal feelings, memories, thoughts and observations. Help me to make this space positive by allowing me to learn from your feedback.


من ذات المكان البعيد عاوده نفس الحلم من جديد. نفس الحلم يأتيه من أربعة أعوام. يبدأ بنفس البداية ، وينتهي نفس النهاية المفاجئة. دائما يكون الحلم الأخير في سلسلة أحلام متقطعة ، ودائما يلعب الكتشينة رغم أنه لا يلعبها قط على أرض الواقع ، وبالكاد يفهم قوانينها. ألم نقل بأن الأحلام وحدها تجعل المستحيل واقعا؟!

ككل مرة يرى (خالد) نفسه يلعب (الكتشينة) مع مجموعة من الأغراب. كان رابعهم ، وكان الوقت متأخرا في مكان لا يعلمه ، ولكنه حتما لم يكن منزله. كان دائرة اللعب تدور وتدور ، يسحب كرتا ثم يتخلص منه بسرعة... لم تكتمل تشكيلة الأوراق التي ينتظرها. فيلعبون من جديد ، مرة ثم أخرى ، وفي كل مرة يكون منتظرا نفس الكرت.. (الجوكر). يسحب كرتا من جديد ، ويتخلص منه مجددا ، ولم يظهر بعد كرت (الجوكر). حتى جاءه الدور من جديد ، وظهر كرت بدا له كالجوكر.. دقق النظر ، وكأنه لا يصدق ما يرى ، حتى وجد أخيرا أنه ليس سوى كرت (الجوكر).

وعندما جاء ليقذف بالجوكر بكل حماس حتى ينهي اللعبة لصالحه ، سمع طنينا شديدا ، بدا بعيدا ولكنه سريعا بدأ بالاقتراب شيئا فشئيا بصورة مزعجة. لم يعرف سببه ولا مصدره. نظر حوله فوجد الثلاثة ينظرون إليه وهم يضحكون بشدة وبأعلى صوت ، حتى كاد أحدهم السقوط من فرط الضحك. ثم في وسط هذا الذهول ينتهي الحلم.. فجأة...




دخلت الطائرة في هذه الأثناء الحدود الأمريكية اليابسة ، تلك البلاد التي لا يعرف إلى اليوم من أول من وصل إليها. فبعد أن حفظنا بعناء اسم كريستوفر كولمبوس في المدرسة ، تقول اليوم كل النظريات والبراهين اليوم "عفوا كولمبوس ولكنك لست أول من وصل أمريكا!".

المهم ، وصلت للبلاد التي قال عنها الرئيس الفرنسي المعروف بآراءه الحادة تجاه أمريكا شارل ديجول ساخرا "الحضارة لا تشترى بالمال!". وإن في تصوري أن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة هو واحد من أهم الأسباب تقدمها ، وإن بعد أمريكا عن أوربا وآسيا وأفريقيا أمان بحد ذاته. فالشعب الأمريكي عاش بعيدا من أي شيء ، فهو إلى اليوم لم يعرف حربا في بلده ، ولايزال يستمع عبر شبكة الـ
CNN عن الحروب التي تشارك فيها قواته في دول أخرى كفيتنام ، وكوبا ، والعراق. ولكنه لم يعش الحرب ، ولم يعش خوف الحرب أبدا ، فلم تضرب بلاده لا بقنبلة نووية فاحجتاجوا لإعادة تعمير تحتية ، ولا حرقت المدن فاحجتاجوا للرحيل. اللهم إلا حادثة (بيرل هاربور) اليتيمة ، عندما تجرأ اليابانيون واخترقت طائراتهم وحاملات الطائرات كل الرادارات الأمريكية بدهاء مثير ، فضربوهم في عقر دارهم. ولكن انتقام الأمريكان كان أكبر ، فردوا عليهم بإلقاء القنبلة النووية الشهيرة ، لمن تجرأ ومس ريش النسر الأمريكي العظيم! ن

نظرت من النافذة لهذه البلاد ، كل ما وجدته كان أبيضا.. فالثلج يعم المكان.. المياه مجدمة ، والأشجار يغظيها الجليد بعدما قرض كل ما فيها.. تذكرت حينها بيت شعر جميل جدا لدبلوماسي السودان الأول (محمد أحمد المحجوب) عندما مرَ بموقف مشابه تقريبا ، فكان كذلك في الطائرة وفي أواخر أشهر الشتاء ، فعبرت طائرته جبال الألب ، فنظر من نافذته ووجد الجبال وقد بدأ الثلج بالزوال ، ليظهر اللون الأسود مرة أخرى ، فقال وهو ينظر إلى تلك الجبال ( ليت شيبي موسمي مثلها.. يسدل الصيف عن صباها القناع). وسر حفظي لهذا البيت هو أن والدي -صاحب الشعر الأبيض منذ عقده الثالث- يعلق هذا البيت من الشعر في مكتبه!.


بدأت الطائرة بالهبوط تدريجيا في مدينة نيوجيرسي ، وعندما عبرت الطائرة مدينة نيويورك ، وظهرت عروسها منهاتن دون حلقها المتدلي الشامخ ، تذكرت اليوم الذي فقدتهما ، إن يوم الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001 سيظل محفورا في قلب كل أمريكي بلا شك.


الكل الآن في الطائرة في حالة استعداد للهبوط ، فربطنا حزام الأمان ، والطائرة تهبط تدريجيا بكل هدوء حتى أنزلها قائدها بكل براعة وخفة في أرض الولايات المتحدة الأمريكية في تمام الساعة الثامنة وأربعون دقيقة صباحا في اليوم الأخير من عام 2002.



سألت ما هي إجابتك ؟ ولعل سؤالي هذا ما كان ينتظر طوال هذه المدة. تمدد على كرسيه في ارتياح ، ووضع رجلا على أخرى ، ثم قال:

- الديمقراطية.

ربما قال وجهي الكثير وأنا لا أعلم ، لكن ما أذكره أنه لم تخرج عني أية حروف. كنت لا أزال أفكر في الفرق بين الاكتشاف والاختراع ، ثم جال رأسي يفكر عن عظمة الديمقراطية كما يقول صديقي الديمقراطي. أخيرا سألته ما كان ينتطر:

- كيف؟!


قال أنه يعتقد بأن الديمقراطية هي أساس السلام في العالم ، ولولا الديمقراطية لما سقططت ممالك وكنائس أبت دون تقدم العلم. هززت رأسي مبديا اتفاقا إلى حد ما ، ولما أحس بذلك أعاد نفس الكلام ولكن بصياغة أخرى ، وعندما أحس أنه لم يكسب التأييد الذي رغبه قال:

- ربما يصعب عليك تقدير دور الديمقراطية لأنك من خلفية مسلمة.

قالها ببرود وهو لا يدر أنه مس وترا حساسا! عندها فقت من كومة التخدير التي كانت لا تزال تسريني طوال فترة حديثة ، ثم قلت:

- عليّ أن أغادر لأني لدي موعد مع صديق وقد تأخرت ، لكن لدي نقطتين ردا على رأيك:


أولا ، أن الاسلام قد جاء بمدأ الشورى عندما لم يكن هناك بعد مصطلحا اسمه ديمقراطية. ووقتها الدين لم يتعارض أبدا مع العلم ، ولذلك كان العلماء في أوربا يترجمون الكتب العربية والفارسية للإنجليزية وليس العكس.


ثانيـا ، رغم قناعتي بدور الديمقراطية في العالم ، من قال بأنها تعني دائما السلام والرخاء كما تقول؟ انظر للصين فهي أكبر منافس لكم ، وهي دون شك القوة الاقتصادية الكبرى في المستقبل القريب ، ومع ذلك فهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية التي تتحدث عنها. قال:

- صحيح ، ولكني أعتقد بأنها ستكون أكثر قوة ورخاءا لو كانت ديمقراطية.

- كيف أنت موقن بذلك؟! انظر ماذا فعلتم في العراق؟ كان قوة ديكتاتورية دون شك ولكن قوية اقتصاديا ومستقرة سياسيا. أما اليوم فهي ديمقراطية في رأيكم ، ولكن مفلسة وبعيدة كل البعد عن السلام والرخاء.


اعطيت ردي بطريقة "كش ملك" ، وغادرت وأنا أحتفظ على بسمة مصطنعة.. أما هو فتركته حائرا أعوج اللسان.

***

مر على هذه القصة شهور قليلة ، وها أنا أكتب هذه الكلمات كالعادة من مقهى (بيتس) لا زلت أرى شيخنا الديمقراطي كل يوم تقريبا. لا يزال يأتي وحيدا.. يشرب قهوته وحيدا ، ولا يزال كوبه يئن ويتوجع كل حين. صار يتحاشى النظر إلى والقاء السـلام ، وإن ابتسمت ملقيا التحية رد ببرود وكأنه لا يذكرني ، وكأن الديمقراطية قد فشلت في إثراء علاقة بين كندي ديمقراطي ، وسوداني مسلم!


قبلت طلبه بترحاب شديد ، و أجبت كل أسئلته التقنية. وبعد أن انتهيت سأل:

- من أي البلاد أنت؟

قلت السودان. سعد جدا وقال أنه لم يلتق أحدا من السودان قد. عاد فسأل وهو يفكر:

- هل أنت من الجزء المسلم أم المسيحي؟

- المسلم...

غابت الابتسامة الكبيرة فجأة ، ولم يقل شيئا سوى اهتزازة بسيطة من الرأس تقول أن الرسالة قد وصلت.


أسند ظهره للخلف وأخذ شرفة أخرى من قهوته ، ثم وضع كوبه بقوة كالعادة ، وقد بدا أنه في مزاج للحديث المتواصل. بدأ يحكي أنه من مدينة واترلو الكندية وأنه يعيش في مدينة سان فرانسسكو لأكثر من ثلاثين سنة ، كيف جاء ، وماذا عمل قبل التقاعد ، وهواياته. وفي حديثه لاحظت أنه كان يستمتع وهو يسألني أسئلة تاريخية صعبة ، فسألني عن السنة التي حل فيها كريستوفر كولمبوس لأمريكا الشمالية ، وعن الهنود الحمر. وجميعها مواضيع أجهل عنها تماما! فراح يشرح ويشرح حتى أخذنا الحوار أكثر من ثلاثين دقيقة ، وأنا أنظر للساعة كل حين خوفا من التأخر على موعد كان مع صديقي إبراهيم مأمون.


وبين حديثه المتواصل الذي بدأت الملل منه ، وأسئلته التاريخية الصعبة ، صرت أنظر لوجهه في سراب ، وإلى فم يتراقص فتخرج عنه حروف أراها ولا أسمعها.. سأل فجأة:


- في رأيك ما هو أعظم اكتشاف توصلت إليه البشرية؟


ولأول مرة أحس أن لديه سؤال بعيد عن الملل. قلت بعد تفكير:


- الكهرباء. وشرحت لماذا الكهرباء في رأيي. تركني أكمل تفسيري ، ثم قال:


- لقد لامست جزءا من قلبي لقولك الكهرباء لأني كنت كما ذكرت مهندس كهرباء. ولكن لاحظ أنني قلت ما أعظم "اكتشاف" وليس "اختراع" ، وهناك فرق كبير.


فقلت ما هي إجابتك إذا؟ ولعل سؤالي هذا ما كان ينتظر طوال هذه المدة. تمدد على كرسيه في ارتياح ، ووضع رجلا على أخرى ، ثم قال:


- الديمقراطية.


وللحديث بقية.



بعنوان مشابه لآخر انتقاه الدكتور مصطفى محمود لواحد من أفضل كتبه "حوار مع صديقي الملحد" أخترت أن أسمي حديثي.

مثله كأي يوم آخر ذهبت لمقهى "بيتس" أحتسي قهوة أعلم عن يقين أنها تماما ما كنت أفتقد في تلك الساعة. وعندما تذهب لمقهى "بيتس" يوميا مرة أو اثنتين فلابد أن تدرك بعضا من الوجوه المألوفة.. أو الزبائن المخلصين. ومن بين الزبائن المتكررين رجل كبير في العمر.. ربما يكون في أواخر العقد السابع. أراه كل يوم يأتي وحيدا.. يشرب القهوة.. وحيدا.. ثم ينصرف.. وحيدا.. دون كلمة.


كان يلفتني إليه أمرين ، أنه وحيد دائما.. حتى من كتاب. فقلت في تحليل نفسي داخلي أنه ربما يسكن في دار العجزة الذي هو على بعد خطوات من مقهى "بيتس". أما الأمر الثاني فكان في طريقة شربه للقهوة. فهو يحتسي شرفة ثم يضع الكوب على الطاولة بقوة وبطريقة مزعجة تجعلك تخشى على الكوب أن ينكسر في أي لحظة ، وتجعلك تأسف كل حين على قعر الكوب وأن تسمعه يتوجع ويئن!


ولكن في عصر ذلك اليوم بالتحديد بدا الشيخ الكبير مختلقا. فلم يكن وحيدا. كان معه جهاز كمبيوتر محمول ، فنظرت إليه خلسة في إعجاب وقد بدا من حركاته إنه متمكن من استعماله. وما هي إلا دقائق قليلة حتى رأيته يتحرك نحوي ولأول مرة أسمع له حسا! كان مختلقا ولا يشبهه إطلاقا! كان أكثر قوة وثقة. قال:

- هل تسمح لي بدقيقة ، أريدك أن تريني كيف أستطيع الاتصال بالشبكة اللاسلكية من جهازي المحمول.


وكان ذلك بداية الحوار الديمقراطي... وللحديث بقية.


قالت وهي تحاور نفسها في صمت:


ولازلت في مكاني ذاته.. جسدا بلا روح. كثيرا ما كنت أتسائل لم يقول الكثيرون بأن الانسان صراع لعقله مع قلبه ، وأن الأفعال إنما تأتي استجابة لأحد المصدرين.. العقل أو القلب. لكن ماذا عن الروح؟! أليست الروح بداية ومنتهى كل شيء؟ بلى.. فهي أول ما ينفخ في الجسد ، وهي في نفس الوقت آخر مغادر له. قد يعيش الانسان بلا عقل إن أراد الله له إختبارا صعبا في الدنيا ، وكذلك بلا قلب إما لإختبار إلاهي آخر أو لاختيار شخصي فيميت الشخص قلبه بكامل صحته ، فيطغى ويعذب بلا قلب يؤلمه أو يأنبه. أما دون الروح فتستحيل الحياة. الروح هي القائد لكل الأفعال وهي المتحكم في العقل والقلب. فهي تنشط قلبه ونشاطه ومزاجه ، ويمكن كذلك أن تهيجه وتقوده لأفعال شيطانية لا تأتي بالفطرة لذلك ظهرت قصص وحكايات تقول أن جنا سكن فلان فجن جنونه حتى أصبح شخصا آخر.


كل ما في الدنيا أصبح لا يعني لي شيئا كثيرا. الفرح والحزن والملل والجوع والنعاس كلها أحاسيس مؤقتة ولحظية. كل يوم كسابقه ولاحقه ، لا جديد ولا شيء أنتظره. وهكذا أنا اليوم وكل يوم.. ولكني لم أعلم أن في هذا اليوم أمرا ينتظرني سيجعل في حالي كثير الأثر.

رغم أن البدوذية ديانة معظم الشعب إلا أن العدد الهائل المنتشر للكنائس يشعرك وكأن موكب المسيحية قد مر هذا المكان. الكنائس كثيرة جدا ، وفي كل مكان. الأمر الأعجب هو ما تلتقطه عينيك في الليل ، فمن كل هذه الكنائس يمتد صليبا عاليا مضاءا باللون الأحمر يلفت الانتباه وإن كنت مصابا بالعشى!


أما الرحلة الأجمل فكانت إلى الحدود مع كوريا الشمالية. فهناك حافلات يومية تستقل المئات من السائحين حتى أقرب نقطة إلى واحدة من أكثر الدول غموضا. استقليت الباص في الصباح في رحلة تستغرق نحو ساعتين ، مع عدد كبير من السائحين الأمريكان ، وجمع من طلبة الجامعات ضمن برامج التبادل ، وعدد لا بأس به من دول أسيوية أخرى. توقفنا اولا عند أحد أشهر الأنفاق التي تربط الكوريتين. النفق طوله 2,5 كم وعمقه 250 مترا تحت سطح النهر الذي يفصل الكوريتين. وقد بنى الشماليون هذا النفق سرا في خطوة شديدة الدهاء تحسبا لأي حرب من الجنوب ، فيكون لهم قدرة القيام بعمل هجومي مفاجي يستيطيعون به نقل الجنود والمعدات الخفيفة! وقد اكتشف الجنوبيون النفق في التسعينيات ثم جعلو منه منطقة سياحية!


التخاطب مع عامة الناس لم يكن سهلا. ولكن حمدا للغة الإشارة! وجدت الشعب الكوري طيبا ومرحبا بالغريب بكل بساطة وعفوية. على النقيض من الياباني.. فالياباني خدوم جدا و بإخلاص ولكنك دائما تشعر بأنه يؤدي في واجب أو خدمة وطنية ، أما الكوري فهو أكثر ابتساما وأقل رسمية. أذكر أنه عندما زرت المتحف الوطني كانت هنالك رحلة مدرسية لأطفال دون سن العاشرة ، وما أن رأتني أحد الفتيات حتى ابتهجت دواخلها وخوارجها ، وكأني تشكلت كبطل أحد أفلام هوليوود ، فنادت من بعيد (هالو هالو!) ، فرددت الابتسامة والسلام من بعيد. لم تكتف بذلك ثم سريعا رفعت كفها وهي تقول إلى (هاي فايف!) ، مشيت نحوها ورددت الـ (هاي فايف) فضحكت بشدة حتى كادت تسقط ، ثم سريعا ما وجدت نفسي محاطا بأطفال مرفوعي الأكفة ويقولون (هاي فايف.. هاي فايف!). نفس التحية (هالو) سمعتها كثيرا في الشارع من غرباء أثناء تجوالي!


وفي يوم كنت أبحث عن محل معين لبيع الالكترونيات ، ولما جلت في الشارع مرارا وتكرارا دون أن أجده قررت السؤال. وجدت شابا في سني قادما من الاتجاه المعاكس إلي.. قلت عل وعسى يعرف شيئا من الانجليزية. سألته فقال أنه يعرف المكان ، ثم بدلا أن يصفه إلى قال اتبعني! تبعته لنحو مائة متر في اتجاه معاكس لاتجاه سيره ، حتى وصلنا أمام مبني ثم قال هذا هو!


وفي ثاني يوم لي قررت الغذاء في مطعم كوري وأن أأكل ما يأكله الكوريون. وجدت محلا بدا من الخارج مميزا ، خطوت نحو باب الدخول فلم أجد مقبضا لدفع الباب ، وإنما زرا تضغطه فينفتح الباب وكأنك داخل على مركبة فضائية! وبلغة الإشارة قلت للجرسونة أريد من هذا وأن أشير للصورة. عادت بعد دقائق وهي مبتسمة ووضعت على طاولتي أطباقا كثيرة ، شيئا كالشوربة ، أرز ، الطبق الرئيسي وكان دجاجا ومعه مقص! ، ثم مقبلات كثيرة وزعت في أطباق كثيرة وصغيرة جدا. تركتني الجرسونه وأنا أنظر لما طلبت محاولا أن أفهم كيف سأأكل ، وماذا يفعل المقص في منتصف الطبق! وبلغة الإشارة من جديد ، أشرت للجرسونه وإشاراتي تقول ماذا أفعل الآن؟ ضحكت بشدة ثم ناولتي الملعقة وهي تشير إلى الشوربة ، ثم مسكت المقص وقطعت لي الدجاج قطعا صغيرة فأشارت إلى أن أأكله ثم أتبعه بملقة من الأرز وأي من صحون المقبلات! وكان ذلك درسي الأول في طقوس الأكل الكوري!




مما لا تخطئه العين عن طبيعة سيؤول أنها جبيلة. فالمدينة كلها عبارة عن مرتفع وراء آخر. فلا يمكنك السير طويلا دون أن تتسلق أو تهبط من مرتفع ما. وعندما تسير بك السيارة في أي من هذه المرتفعات سترى شوارعا وأزقة ضيقة مكتظة بالحركة والسكان. والسير في هذه الجبال أو المرتفعات كلعبة الدهليز! متاهة كبيرة!


وهنالك تذكرت معلومة استعجبت لها وأنا أقرأ كتابا عن سيؤول قبيل وصولي تقول بأن معظم شوارع سيؤول لا تحمل أسماءا ، وأن الوصف لا يتم دون ذكر أي من المعالم المعروفة كأن تقول قرب القصر الفلاني ، أو شمالا لمركز الشرطة في المرتفع الفلاني.


الشكل العام للمدينة كان مغايرا قليلا لما توقعت. لسبب أو لآخر اعتقدت بأنها ستكون شبيهة بطوكيو ، ولكنها لم تكن تماما كذلك. بل أحسست بأنها مزيجا بين بكين (رغم أني لم أزرها) وطوكيو.. وإن كانت أقرب إلى بكين حسب ما أتخيلها. وفي قراءة بسيطة لتاريخ كوريا يمكنك أن تعرف السبب.. فكوريا لم تعرف الاستقلال إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والهزيمة الشهيرة لليابان. قبلها ولقرون ظلت كوريا (الجنوبية والشمالية) إما مقاطعة صينية أو يابانية. أما التاريخ الكوري فلا يذكر الاستعمار الياباني إلا بكل شر ، ولا يذكر الصيني إلا بكل وكل الخير! رغم أن لكلاهما فضل كبير في النهضة الكورية ، ولكن يبدو أن قسوة وبطش المستعمر الياباني كان أثرهما أكبر في نفوس الناس.. فتلاشت واختفت كل الحسنات. وهي طبيعة الانسان على أي حال...


وفي مدينة سيؤول متحف كوريا الوطني ، وهو من الضخامة أنه يقال إن مررت على كل أدواره وأقسامه فكأنك مشيت ثلاثة كيلومترات. وعلى نفس أرض المتحف في يوم من الأيام كان مقر الإدراة اليابانية عندما كانت كوريا جزءا من اليابان. وبمجرد خروج اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم هدم المبني بالكامل في إشارة للحرية والاستقلال. حتى تقرر في عام 2005 بناء هذا المتحف العملاق على نفس المكان.





































حملتني الرياح في سكون حتى أوصلتني لمدينة سيؤول في كوريا الجنوبية. نفس ذات الرياح ولكن باتجاه معاكس وبتوتر شديد عادت بي للتو وفي ذاكرتي مخزون جميل يستدعي التدوين.


وصلت لسيؤول في مغرب أصيل. أما الجو فكان على ما يرام... لم يكن لا باردا تقشعر منه الأبدان ، ولا حارا تنفر منه الثياب. استقليت حافلة الفندق من المطار وأنا أمتع النظر بشغف ، وفي كل لحظة وأخرى في ذلك المساء كانت سيؤول تترسم لي بأشكال مختلفة. فتارة يخيل إلي أني أقطع شارعا في وسط مدينة أبوظبي... بنفس علو العمارات ، وضيق الشوارع ، والإضاءة البيضاء. وأحيانا أخرى وأنا أرى أطراف الشاطيء ومنترها على طرفه ، أكاد أجزم أن ذلك المنتزه ليس إلا على أطراف النيل.


وصلت إلى الفندق أخيرا ولم أدر إن كانت كل تلك التشبيهات السريعة حقيقة أو خيالا ، أم هي شوق وحنين لأبوظبي والخرطوم ، فتشبه إليّ جمال شيء بشيء آخر عزيز.. أو أن ذلك لا حقيقة ، ولا شوقا وإنما هضربات مسافر تعب من السفر الطويل ، وشح النوم على سرير مريح...


ولم يزل في الرحلة شيئا يُذكر..


كانت تبتسم في حديثها فتخرج الحروف عن فمها الوردي في هدوء ، وإيقاع رقيق عذب. أما عينيها فكانتا لا تستقران في عينيه إلا لجزء من الثانية ، ثم سريعا ما يغلبها الخجل فتكمل حديثها وهي تنظر لشيء آخر.. كذلك في إيقاع رقيق عذب.


كان لها وجها مريحا.. صافيا وبعيدا عن ضوضاء المكياج ، وهضبات البثور والحبوب. كان لها وجها يجعلك تصدق كل ما تقول.. فإن قالت أنها أتت لتوها من القمر لصدقت دون أي شك.


ولعله كان يعلم ذلك. لا بل حتما أنه كان على يقين بذلك ، فقد كان يستمع إليها ونظراته تفصح عن حبه. كان ينظر بتأمل ، وكأنه ينظر إلى لوحة فنية ، فيسرح في عالم آخر ثم يعود لوعيه من جديد محاولا الاستماع يتركيز أكبر. حقا صدق قولك يا أمير الشعراء يوم قلت بأن الصب (الحب) تفضحه عيونه. فهنا شابين يتحدثان ويضحكان في براءة ، سعيدين بحبهما وبخجلهما كذلك.


كان لا يزال يتابعهما من خلف الجريدة عندما لاحظ إلى قطعة الجاتوه الموجودة بينهما ، والتي بالكاد اقتربوا منها رغم منظرها الشهي. عاد يفكر وهو يختلس النظرات.. هاهو الحب ينسيك نفسك فتشبع برؤية المحبوب!


أعاد له ذلك المنظر.. المقهي ، الجاتوه ، الوجه الجميل ، البسم البريء ، الخجل.. كل ذلك أعاد إلى نفسه ذكرى لم يستطع هو ، ولا الزمن ، ولا حتى الأحلام نسيانـها. ذكريات قد تبدو انتثدرت من منظور عجلة الزمن ، ولكنها تعاود الظهور كل حين كالداء المزمن اللاعلاج له ، والذي تقل أو تزيد أعراضه بحسب المؤثرات الخارجية.


أدار وجهه عنهما ، ثم وضع الجريدة على حذه ، ووضع بقشيشا على طاولته ثم غادر المقهى في الطريق إلى عمله ، وهو يعلم أن شيئين سيلازمانه اليوم.. القلق والأرق.

سألتني صديقتي المدونة النشطة (آلاء هاشم) عن رأيي في محاولاتها في الكتابة باللغة العربية.


قرأت وقرأت وعيني تتنقل بارتياح بين الكلمات ، ثم تقفز بحماس من سطر إلى آخر. أعدت القراءة من جديد بتلذذ أكثر هذه المرة.. أعيد قراءة السطر مرة واثنتين وثلاث.. أتأمل اختيار الكلمات ، وذاك الخيال السحري الفريد.. حتى وجدت نفسي أسبح في دنيا أخرى ، وجلت بخيالها عالما أخر من الموسيقى والدمع والمطر. خلت أني التقيت أثناء سباحتي العميقة تلك بنزار قباني ، وأحلام مستغانمي وكاظم السـاهر!


عدت من تلك الجولة وأنا عاشق لكتابات هذه الشابة الموهوبة.. وآملا بجديد مثير. عدت وفي داخلي شيء من الخجل أنها حرصت على رأيي المتواضع وهي قنبلة من الموهبة والإبداع.. فهنيئا لك يا آلاء!


قررت الرد على سؤالك في مدونتي كي أذيع رأيي بأعلى صوت ، وكي أحارب به علة الكتمان.. كتمان الحقيقة. ما أكثر ما يعجبنا ، وما أقل ما نقوله؟! كم فقدنا من مواهب بسبب ذلك!


اكتبي ولا تنقطعي حتى إن لم يأت أحدا لمعرض لوحاتك ، فحتما سوف يكتظ بالناس في مكان آخر. أتدرين لماذا؟ لأنك ملكت الموهبة!


اليكم واحدة من أجمل المقاطع التي قرأت:

افتقدتك
و أنا معك جالسة
آه كم اشتقتك
فأخبرني
أين ذهبت؟
و لماذا سافرت؟
و تركتني وحدي
مع هذا الغريب
أناديه بإسم يشبه إسمك
مفتقدا معناه
انظر إلى عيناه التي تشبه عيناك

(آه كم اشتقتها)



"نحو سـودان جديد.. نحو سـودان جديد". هكذا يختم العملاق عبد الكريم الكابلي ومجموع الكورس أغنية "فتاة اليوم والغد". وبختام قوله أبدأ حديثي...


وكأنه – الكـابلي – قد آثر أن يترك الأغنية تنتهي تلك النهاية "أملاً" أن تثير في النفوس دعوة للتفكير فيم رمى ، و"خوفا" أن يستطرد في حديث ربما ليس الشعر والكلام الناعم المقفى الوعاء الأنسب له.


وهل الأمل والخوف نقيضين متلازمين؟! أميل الآن لقول نعم.. ولكن ذلك بداية لحديث أخر.. قد يطول. بل حتما سيطول!


..


دفعني نقاشي الساخن عن السودان وحاله اليوم مع صديقة لي ليؤكد نظرتي التي أثرتها في حديث سابق بأن أصل المشكلة اليوم يعود لأخطاء في التربية والتعليم.


أكره التشاؤم ، وأكثر منه الاستسلام.. لواقع الحال. أعتقد أن الرئيس الأمريكي الراحل ( جون كينيدي ) هو من قال " لا تسأل ماذا يجب أن تقدم إليّ الدولة ، بل اسأل ماذا يمكنني أنا أن أقدم".


إلى كل منتقد ومتشائم ومستسلم أسألك أن تسأل ماذا قدمت ، وبماذا أسهمت قبل أن تنتقد. فإن قدمت شيئا ولم تجد محصولا فلك الحق وكل الحق أن تغضب ، وتثور ، وتنتقد نقدا بشرط أن يكون بناءا. أما إن كنت في المهجر ، أو حتى في قلب الخرطوم ولم تقدم شيئا بعد.. مثلي وكثير من أبناء وبنات جيلي ، فلا يحق لنا أي شيء سوى إلتزام الصمت.


فإن كرهنا الفقر والفساد فأحق أن نصمت. لأنا لوكنا هنالك في قلب الحدث لخففنا ظمأ الفقير ، ولمنعنا الفساد في كل ما حولنا. أما إن أحزننا النفاق والنميمة بين الناس ، فيجب أن نعاهد أنفسنا أن لا نغتاب أحدا مهما يكن ، وأن يلقى ابنك علقة ساخنة إن سمعته يغتاب أحدا. أما إن غش أو سرق الإبن ، فأحرى للأب والأم أن يسجنا أنفسهما ، مع دفع غرامة للدولة نظير تربية فاشلة ، ولاسهامهما الفعال في انتاج تفاحة فاسـدة للمجتمع.


كلمة أخيرة ، إبدأ بنفسك قبل غيرك. احرص على الأفعال قبل الأقوال. تأمل الصواب وتعلم من الخطأ ، وركز على الوجه الحسن قبل أن يلهيك الأقل حسنا. فإن فعلت أنا ، وأنت وكل من حولنا ألن يكون بمقدورنا أن نخلق سودانا جديدا؟!


معـا نحو سودان جديد...

Subscribe to: Posts (Atom)